Friday, March 18, 2016

الحياة في وسط أوتوقراطي: قراءة للعلاقات الإنسانية في المجتمع العربي


الصداقة الحميمة هي قوس قزح يصل بين قلبين يتشاركان سبعة ألوان: الود، الحزن، السعادة، الحقيقة، الإخلاص، الثقة والاحترام. هذه الصداقة تستلزم أن تكون واضح شفاف كمرآة أمام أصدقائك، وهذا يفسر لماذا لا تتحقق بيننا كأفراد في مجتمع عربي إلا في مرحلتي الطفولة والصبا عهد البراءة والصفاء، بمرور الوقت يتعلم الفرد من مجتمعنا كيف يخبئ ويكذب ويتصنع أمام القريب قبل البعيد.
أنت فرد في مجتمع لا يعرف الصدق. مهما كان الشخص سيئاً فهو لا ينظر إلى عيوبه ونقصه وينشغل بالنظر إلى عيوب الآخرين والتدخل في شؤونهم في جو مقلق من الازدواجية والقبح والعداء. والنتيجة قلوب جريحة سوداء كالحجر يبطن أصحابها الغل ويظهرون الحب والتسامح. 
لم أر هذه الصداقة الحميمة إلا في متابعتي لأساليب الحياة في المجتمع الأوروبي الذي يتمتع الشخص السوي فيه بالحرية والشفافية والوضوح أمام أصدقاءه لأنه مجتمع لا يتصدر فيه البعض للحكم على تصرفات الآخرين والكل فيه مشغول بنفسه، أهدافهم هي العمل والنجاح وإثبات الذات. 
نحن مجتمع لا يعرف الديمقراطية. الديمقراطية يمارسها المجتمع الأوروبي بالكثير من التحرر ولكن بطريقة سليمة. لا حكم على الآخرين، مدير العمل يشارك السلطة ويوزعها ويستشير موظفيه في قراراته، لا يمارسون التعنت ولا يجبرون أبناءهم على دراسة او عمل او زيجة ما، لا يمارسون الضغط على الغير بمراقبة تصرفاتهم والتضييق عليهم وإسداء النصح الدائم لهم بالزواج أو الإنجاب، ليست في قاموسهم هذه الألقاب الجارحة: عانس، مطلقة، عاقر، عاطل، قصير، أصلع، بدين، معاق، أم البنات ... إلخ. لا تسفيه ولا سخرية من أفكار الآخرين. الديمقراطية تمارس على أوسع نطاق في المجتمع الغربي، لا يمكن تطبيق الديمقراطية في الحكم إذا لم يكن المجتمع نفسه يتمتع بالديمقراطية.  
غياب الصديق الحميم يؤثر على الروح المعنوية للإنسان بالسلب، وكذا غياب الصدق في تعاملك مع كل من حولك. خاصة في مجتمع يلعب الجميع فيه لعبة الاستغماية وينغلقون على أنفسهم. هناك الكثير من الحزن والغضب والقهر المخبوء بالداخل يحتاج إلى الفضفضة والتنفيس. 
بالتأكيد هناك في المجتمع الغربي أيقونات فكرية وثقافات وممارسات متحررة لا محل لها من الإعراب في مجتمعنا العربي، لكن بمقدورنا تعلم الأمر الممتاز وهو الديمقراطية. الديمقراطية تحررك من الخجل وتعلمك التعبير عن نفسك والانفتاح على العالم وتغيير كل علاقاتك إلى الأفضل. ربما يحدث هذا التطور بعد مائة عام أو أكثر، وربما يبقى الحال على ما هو عليه، وربما تثمر عقول الشباب عن أفكار جديدة تحدث حراكاً مجتمعياً وتجري المياه الراكدة، من يدري. 

Tuesday, January 19, 2016

الكاريكاتور للجاحظ والباليه لأبى العلاء المعرى!!

هذه هى المشاركة الرابعة فى سلسلة المشاركات التى تتناول كتاب فن الأدب.
فى محاولة للربط بين روح العصر وبين تراثنا الأدبى، تحدث توفيق الحكيم عن أديبين عظيمين، بلغا من العبقرية ما جعل التاريخ يخلد أدبهما، ويتتلمذ على أيديهما أدباء العصر النابغين.
واستطاع بسعة خياله وبدقة ملاحظاته أن يلقى نظرة حديثة عليهما وأن يرى فى أدبهما ما لم نره من قبل.
أولا: الجاحظ مخترع فن الكاريكاتور

يعتبر ‫#‏توفيق_الحكيم‬ الجاحظ أستاذًا مباشرًا لأكثر رجال القلم فى الأدب العربى المعاصر، لأنه حمل لواء التجديد، وعلم الكتاب أن الأسلوب أداة للتعبير عن النفس، لا بضاعة من الزخرف يراد بها اللهو.
وقد أورد كاتبنا هذا الكلام فى سياق حديثه وهو كلام على لسان الجاحظ، وسوف يناقش توفيق الحكيم هذا الكلام. لكن علينا أن نلاحظ أولا أن هذه اللغة اليسيرة، كان الجاحظ يكتب بها منذ عشرة قرون.
النقظة الأولى الذى يناقشها ‫#‏توفيق_الحكيم‬ فى كلام الجاحظ هى التعجل والتلهف على النجاح دون بذل الجهد اللازم.
والنجاح فى الفن والأدب دون بذل الجهد اللازم فى التعلم والتمرن يتسبب فى فساد القيم واختلال الموازين.

وهذه هى النقطة الثانية، فى كلام الجاحظ إذا ما أسقطناه على عصرنا الحالى.
وقد بلغ الجاحظ من براعة التصوير فى كتابه: التدوير والتكعيب، ما جعل ‫#‏توفيق_الحكيم‬ يرى ــ بما يتميز به من سعة فى الخيال ــ أن الجاحظ كان من أسبق الكتاب للتصوير الكاريكاتورى بالكتابة.
وكل كاريكاتور به نوع من الهجاء، وليس فى كل هجاء نوع من الكاريكاتور.
ثانيًا: أبو العلاء المعرى خالق الباليه الأول

بصف ‫#‏توفيق_الحكيم‬ حال الشرقى وقد افتتن بهذه المشاهد، ثم يقول: لقد أنستنا براعة الإخراج ما فى بطون الكتب!.. ذلك أن العجب الأكبر هو أن أبا العلاء المعرى تخيل أكثر من ذلك منذ ألف عام.. ولنرجع إلى تصوره لحدائق الحور ورقص الحور فى رسالة الغفران..
لقد كان ذلك الضرير مثل هومير، يتخيل الأشياء فى سموها وعلوها، لقد استطاع أن يرى فن الرقص على ما ينبغى له من نبل وارتفاع!


أكان ينقص هذا الخيال غير مخرج يقيمه فوق مسرح؟!

ثم يعقد مقارنة سريعة بين الرقص الشرقى والرقص الغربى فيقول:
فى الرقص الشرقى، يدور الحوار دائمًا بين عضو وعضو من جسم راقصة! أما فى الرقص الغربى، فالحوار يدور بين الراقصة والهواء، وبين مجموعة من الراقصات والفضاء!.. وإن الأذرع والسيقان والأقدام لتتحرك وتتماوج ولكنها لا تفقد أبدًا الصلة بينها وبين الطبيعة المحيطة بها من أرض وفضاء.
إن الراقصة الشرقية دائمًا فوق الأرض، كأنها فى الطين مغروسة. أما الراقصة الغربية فكأنها تريد أن تثبت أنها تمشى فى الهواء مرتفعة عن الأرض، فهى تخطو على أطراف الأنامل وتثب كأنها جواد!

يتحدث ‫#‏توفيق_الحكيم‬ عن الصلة بين الراقصة والجواد ثم يذكر أبياتًا للبحترى وزهير وابن المعتز، استطاع فيها هؤلاء الشعراء لمح هذه الصلة.
ــــــــــــــــــــ
إن الصلة بين الجواد والراقصة يلمحها كل من نفذ إلى روح الرقص.. لقد حدثنا بول فاليرى فيما حدث عن المصور دجاس، ذلك الذى حذق تصوير راقصات الباليه، أن ذلك الفنان لم تغب عنه تلك العلاقة بين الراقصة والجواد، فقد كان يدرس خيل السباق فيما يدرس من مصادر فنه!



Saturday, January 9, 2016

فن الخرافة (الثعلب والديك نموذجا)

فن الخرافة(الثعلب والديك نموذجا):


يُعرف فن الخرافةبأنه: قصة قصيرة تسرد حادثة تدور على ألسنة الحيوانات، وتُمثِّل في ثوبها الخارجي المموه واقعا إنسانياً، مثل خرافات "ابن المقفع- لافونتين- ايسوب"... الخ.

ومن أشهر ممن كتبوا فى هذا الفن  لافونتين(1621 – 1695)  صحيح أنه لم يخترع فن الخرافة، ولكنه استفاد ممن سبقوه أمثال ايسوب اليوناني، وفيدر اللاتيني، وبيدبا الهندي.
كانت الخرافة قبل لافونتين – في اليونانية واللاتينية – حكاية قصيرة بسيطة،تنتهى عادة بدرس أخلاقي هو غايتها الأساسية، لكن لافونتين طور الخرافة إلى عمل فني متكامل العناصر يهدف إلى غايتين: التثقيف والمتعة الفنية؛ لأنه رأى – كما يقول في مقدمة خرافاته “أن الخرافة تتكون من جزأين: يمكن أن نسمي أحدهما جسما والآخر روحاً، فالجسم هو الحكاية، أما الروح فهي المعنى الخلفي للحكاية”..
كما تناول لافونتين في خرافاته الموضوعات التقليدية، لكنه بث فيها الحياة والقوة والجمال بما سكبه فيها من طبعه الفني، وسخريته اللطيفة، ومقدرته على الغوص في أغوار النفوس، واستطاع أن يقدم لوحة كاملة للمجتمع الفرنسي في عصره، بل للمجتمع الإنساني بأسره. وهذه أسباب إقبال أدباء العربية على خرافات لافونتين بالنقل والترجمة حيناً، وبالاقتباس والتقليد حيناً آخر،وكان من أبرز هؤلاء أمير الشعراء أحمد شوقى(١٨٦٨_١٩٣٢)

سبق الكثيرون شوقي في التأليف على غرار حكايات لافونتين ومنهم: محمد عثمان جلال(١٨٢٨_١٨٩٨) في كتابه: (العيون اليواقظ في الحكم والأمثال والمواعظ)، إلا أنه مصّر الأماكن وغيرها فجعلها ترجمة حرة في قالب شعري مزدوج مبسط لحكايات لافونتين، ثم سلك مسلكه إبراهيم العرب في كتابه: (آداب العرب) وهو شعر قصّ فيه حكايات على لسان الحيوان، إلا أنهما لم يرتقيا بهذا الفن ما ارتقى به أحمد شوقي حينما والى الجهد في هذا الميدان حتى كان خير من حاكى لافونتين في العربية بجميع خصائصه الفنية.

تأثر شوقى بخرافات لافونتين حينما كان فى فرنسا وقرر أن ينظم حكايات على منوالها وقد ذكر ذلك فى مقدمة ديوانه الشوقيات حيث يقول: "وجربت خاطري في نظم الحكايات على أسلوب (لافونتين) الشهير وفي هذه المجموعة شيء من ذلك فكنت إذا فرغت من وضع أسطورتين أو ثلاث أجتمع بأحداث المصريين وأقرأ عليهم شيئا منها فيفهمونه لأول وهلة ويأنسون إليه ويضحكون من أكثره وأنا أستبشر لذلك وأتمنى لو وفقني الله لأجعل لأطفال المصريين مثلما جعل الشعراء للأطفال في البلاد المتمدنة منظومات قريبة المتناول يأخذون الحكمة والأدب من خلالها على قدر عقولهم". ويضيف: "وهنا لا يسعني إلا الثناء على صديقي خليل مطران صاحب المنن على الأدب، والمؤلف بين أسلوب الإفرنج في نظم الشعر وبين نهج العرب. والمأمول أننا نتعاون على إيجاد شعر للأطفال والنساء وأن يساعدنا سائر الأدباء والشعراء على إدراك هذه الأمنية".
وهنا يمكن القول أن شوقى عاد من فرنسا ومعه مشروع تحديثى للشعر، مشروع قومي يتمنى من خلاله أن يجعل أطفال مصر كأطفال أوروبا فى العلم والثقافة،ويدعو الأدباء والشعراء الى مساعدته فى تحقيق هذه الأمنية.
وقد أخذ النقاد على شوقى فى حكاياته استعماله لبعض الكلمات التى يصعب على الأطفال ادراكها،كذلك يصعب عليهم ادراك ماترمز اليه بعض القصائد ،خاصة إذا كان الرمز سياسيا
وأخيرا أتركك أيها القارىء مع حكاية (الديك والثعلب ) للافونيتن ،والتى ترجمها ونظمها جلال عثمان فى كتابه (العيون اليواقظ) ؛ لتقارن بينها وبين ماكتبه شوقى على نفس الحكاية  .
قال جلال عثمان:
الديك قد كان بأعلى الشجرة...فجاءه الثعلب يوما فأخبره
وقال ياديك أتيت بخبر...أحلى من الرياض فى المطر
قد شاع فينا الصلح والأمانة..فلا تخف قدرا ولاخيانة
وحيث جئت لاشيع هذا ...فالبعد عنى والجفا لماذا
نحن غدونا فى الديار أخوة..فانزل الى إن تكن ذا نخوة
وأقصد عناقى اننى بشير...وبلاكف للهنا أشير
قال له الديك صحيح ماتقول...وقد سمعت اليوم دقا بالطبول
وها أرى كلبين مقبلين..عسى يكونان بساعيين
والان لابد أن نراهما...هنا ليخبرا بما وراهما
ففزع الثعلب للكلبين...وفر يشكو لغراب البين
وقال عن اذنك ياديك الخلا..فى مرة أخرى أراك مقبلا
وفى غد آتى إلي عناقك..فلا تؤاخذنى على فراقك
وراح يجرى خجلا متفزعا...من حيلة لم تجد شيئا نفعا
والديك قد مال عليه ضحكا...من قوله الذى عليه انسبكا
وقال لى غشك للغشاش..ألذ من نومك فى الفراش
وخادع الثعلب وهو داه...ليس بذى جهل ولا أسفاه

وقال شوقى :
بـَرَزَ الثعـــْـــلَبُ يوما*** في شـِعـــار الواعـِظيـنا

فـَمـَشى في الأرضِ يـَهــْـذي *** ويـَســُـبُّ المـاكرينا

ويقول الحـــَــــمـْد لله *** إلـــَـــه العالــــَــمينا

يا عـــِـــباد الله توبوا *** فـَهو كـَهـْف ُ التــائبينا

وازهـَدوا في الطـَيـْر إن الـ *** عـَيـْشَ عـَيـْشُ الزاهـِدينا

واطـْلـُبوا الديـــك يؤذن *** لصـَـلاة الصـُـبـْح فينا

فأتَى الديك َ رَســــُــولٌ *** مـِن إمــام الناســــكينا

عـَرَضَ الأمرَ عـَلـَيـْـهِ *** وهو يـَرجـــو أن يـَلينا

فأجـــــاب الديـكُ عـُذْراً *** يا أضــَـل المهـْتـَدينا

بـَلـِّـغ الثـَعـْلـَبَ عـَنـي *** عـَنْ جـُدودي الصالحـــينا

عن ذَوي التـِيجان مـِمـَّن *** دَخــَــلَ البـَطـْنَ اللعينا

أنهم قـــالوا وخـَيـْرُ الـ *** قـَوْل قـَـوْلُ العـــارفينا

" مـُخـْطـِئ ٌمـَنْ ظـَنّ يـَوما *** أنَ لِلثـَعـْـلَبِ ديـــنا


.................................................................................................................................
هوامش المراجع:
الأدب المقارن_محمد غنيمى هلال
أمير الشعراء يكتب للأطفال_أحمد فضل شبلول
خرافات لافونتين فى الأدب العربى_ نفوسه زكريا سعيد
أدب الأطفال بين أحمد شوقى وعثمان جلال_أحمد زلط
العيون اليواقظ فى الأمثال والمواعظ_محمد جلال عثمان
الشوقيات_أحمد شوقى

اللغة في الرواية العربية: حافظوا على نظافة لغتكم

لماذا يتعامل بعض متلقيِ الأدب مع الفصحى على أنها أمر معقد يصعب فهمه واستيعاب مفرداته، ويتناسون كل هذا الجمال الذي تزخر وتنفرد به في آن. هناك جدل دائر وخلاف بين جمهور الرواية العربية  الذي انقسم إلى  فريقين، الأول يدعم الفصحى ويرى أن كتابة الأدب بالعامية ضعف من الكاتب وليس عيباً في الفصحى، والفريق الآخر يقبل بحماس على الأعمال الركيكة في اللغة أو المكتوبة بالعامية ولا يجد ما يعيب هذه الأعمال، ويشق عليه قراءة الأدب بالفصحى. تكمن الأزمة في أن هناك تطابقاً في الحالة المزرية من الضعف في اللغة العربية والثقافة والفكر بين بعض الأدباء وجزء من جمهور الأدب، وهذا لا يستقيم بأي حال من الأحوال، فعلى الأديب أن يرتقي بفكر وثقافة المتلقي لا أن ينحدر به، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه. المؤكد أن شاعر النيل حافظ إبراهيم حسم هذا الخلاف منذ القرن الماضي بهذا البيت البديع:  
 أنا البحر في أحشائه الدر كامن ××× فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي  
يجب أن نطرح هذا السؤال على أنفسنا، جميعنا الكتاب منا والقراء، لماذا يلجأون إلى العامية والركاكة؟ هل لضعف في الفصحى وقصور في إيصالها المعنى أم لضعف في أدواتهم كأدباء؟ أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم في قوم كان مجال تفوقهم وزهوهم وتفاخرهم هو اللغة والبيان ونظم الشعر، فلما أنزل الله كتابه الحكيم كان معجزة البيان. كالعادة يستدرجنا البعض إلى إثبات البديهي وتأكيد المؤكد فوجب التذكير. الفصحى تنفرد عن غيرها في أن لكل معنى عدة مفردات ولكل جملة العديد من طرق الصياغة، هناك المفردات التي تستخدم في العربية القديمة، ومنها ما يليق مع العربية الحديثة، وهناك المبسط وأخيراً الركيك الضعيفعلى الأديب إتقان مهارة إيصال المعاني من مفردات وتراكيب جمل وإيحاءات لفظية بما يتوافق مع روح النص الأدبي. تكون لغة الرواية عظيمة وممتعة عندما يجيد الكاتب تآلف الكلمة مع الكلمة وقوة الموسيقى بدون كلمات غير متآلفة قد تحدث نشازاً في أذن القارئ. في الأدب قد تشترك الأذن مع العين في المتعة والتذوقيجب أن يبتعد الأسلوب عن الزخرفة اللفظية المبالغ فيها وألا تكون التشبيهات بعيدة عن جو النص. يجدر أن يكون جمال اللغة ورونق الأسلوب قيمة عظيمة في النص الأدبي بصرف النظر عن المستوى الفني.  
هذا عن السرد أما الحوار فالأمر مختلفقد يكون استخدام العامية في الحوار نقطة قوة وليس ضعفاً إن أتقن الكاتب استخدامها، إذ أن إيصال المعنى بالعامية أصعب منه بالفصحى، فمن أجل إيصال الأفكار والانطباعات والمشاعر على لسان الشخصيات ينبغي التحقق من أية عامية يجب استخدامها وإلى أي إقليم تنتمي الشخصية وأي عمل تمتهن ومن أي فئة اجتماعية تندرج. إذا استطاع الكاتب إتقان الحوار بالعامية فهذا أمر يضيف إلى ثقل وأهمية النص الأدبي وتعبيراً وافياً عن الشخصيات فيه، وعن المجتمع على نحو عام، نجيب محفوظ كمثال. إلا أن إساءة استغلال العامية وامتلاء الحوار بالبذاءة والسوقية والتفاهة في بعض النماذج يعد ابتذالاً وانحداراً بمستوى الأدب من الكاتب وانتقاصاً من قيمة العمل ككل.  
إن ضعف اللغة وضحالة الفكر والثقافة نال من القراء مثلما نال من بعض كتاب الجيل الجديد، بل هو تأثر بالضعف والجهل والسطحية المنتشرة في المجتمع ككل. الأسوأ أن يفتقر هؤلاء الكتاب إلى المعرفة والدراسة والإجادة لمقومات الرواية من لغة وحبكة وشكل فني ومضمون فكري. أصبحت الأفكار التي تتناولها بعض الروايات سطحية وغير متنوعة وأصبح الذوق العام في انحدار ليس في الأدب وحده وإنما في عدة مجالات. نشأ فن الأدب في الأصل ليشيد فكراً يرتقي بالمجتمع ويشرع في تناول القضايا الأخلاقية والاجتماعية والسياسية التي تخص هذا المجتمع بالتساؤل وتوجيه أصابع الاتهام للأمثلة السيئة، فرادى أو جماعات، هذه رسالة الأدب فلكل عمل فني رسالة بجانب الترفيه. غير الأدب هناك الدين والفكر والفلسفة وعلم الاجتماع للارتقاء بالمجتمع وحل مشكلاته. يجب أن يبقى الأدب راقياً لينير الطريق إلى خير المجتمع ومعبراً بصدق عن القضايا والأفكار.  
عذراً للإطالة والمباشرة في بعض المواضع من هذا المقال. ختاماً أقول لنهرب باللغة إلى الجمال والرصانة ولا نتركها تقبع في قاع حفرة الإهمال والتردي. أثق ثقة مطلقة بأن اللغة قوية ومتعافية وستمرق من هذا المأزق، كما مرقت في القرن الماضي عندما حاول المحتل إضعاف الفصحى واللجوء إلى العامية على المستويات الرسمية حتى تستبدل فيما بعد باللغة الأجنبية ووقف المخلصون من الكتاب والشعراء وعامة الشعب لهذا التيار بالمرصاد حتى عادت اللغة قوية جزلة. إنها لغة القرآن، لغتنا وهويتنا، ومن تذوب هويته يتحول إلى مسخ لا هو محافظ على هويته ولا هو قادر على الانتماء لهوية وثقافة أخرى. لا يجوز التفريط في لغة الضاد، لا على مستوى الحوار ولا على مستوى الأدبسيكون من الرائع أن نرى الشباب يتطور وينمو إدراكه وينفض يده من هذه الأعمال الغثة، ويقرأ نصوص أدبية قوية بالفصحى. لا يجوز التجاوز عن رداءة كل عناصر الرواية من لغة وأسلوب وحبكة وشكل فني ومضمون، والتجاوز عن المنطق الذي يتنافى مع هذه الأعمال البائسة لمجرد أنها تحكي عن الحب أو الرعب أو لا تخلو من تشويق. لا يجوز، بل لا يليق باللغة العربية أن ننحدر بها إلى هذا المستوى من الضعف والبذاءة. حافظوا على نظافة لغتكم.

Wednesday, January 6, 2016

رواية قواعد العشق الأربعون.. هل تعبر عن الصوفية؟ .. بقلم زهرة حاجى

تعتبر قواعد العشق الأربعون مزيج من الرواية التاريخية والرومانسية، حيث استطاعت الكاتبة أن تمزج قصتين بزمنين مختلفين وبشخصيات مختلفة بين الواقع والخيال، والمميز ان الجو الروحاني كان الغالب على الرواية بأجملها، وان صح التعبير قواعد العشق كانت عبارة عن رحلة روحية وجدت صعوبة بالغة في الخروج منها ومن شخصياتها التي بقيت مسيطرة ع تفكيري وروحي لفترة  طويلة، وما زال تأثيرها قائما حتى اللحظة ..
هي واحد من الروايات القليلة التي تعاد مره وعشرة وحتى اربعين مره ..الترجمة كانت موفقه وأكثر من جيدة.
المرور على الراواية من عدة جوانب: حبكة الرواية التي تندرج تحت المركبة حيث بدأت بتدبير قتل شمس ومن ثم العودة إلى البداية بالإضافة إلى التنقل بين قصة شمس والرومي والكاتبة وعزيز، كانت موفقة ولم اشعر بالضياع إلا في البدايات.
وجود زمنين مختلفين ومكانين مختلفين زاد من جمالية القصة ومن قدرة إليف العبقرية على الدمج بين قصة حقيقية وقصة من وحي الخيال تعتبر استمرارا للرحلة الروحية.
موضوع الرواية سأقسمه لعدة أجزاء: قصة ايلا ..فشل زواجها مع رحلة البحث عن نفسها وصولا لوقوعها في حب عزيز الصوفي تفاصيل كثير لم تكن تتماشى مع روح الرواية الروحاني وقواعد عشق الله وكنت افضل ان يكون حبها روحيا فقط وان يكون بظروف مختلفة كان ان تطلب ايلا الطلاق قبل وقوعها في حب عزيز إلا انني لم اتوقف كثير عند هذه التفاصيل لأسباب سأذكرها في النهاية. موضوع الرواية الثاني قصة جلال الدين الرومي ورحلة تحوله من رجل دين لشاعر وصوفي بالإضافة لقصة حبه لصديق رحلته الروحية ومعلمه شمس التبريزي والتي لم أجدها غريبة. فبعد وقوعي او وقوع اغلبنا في حب شمس كانت تفاصيل تعلق الرومي بشمس مبرره ومنطقية حتى انني رغبت بقراءة ما كتب جلال الدين بعد وفاة شمس لأنني سأجد روح شمس فيها ...طبعا شعرت أن الرواية عن شمس التبريزي لا عن جلال الدين الرومي.. قصة شمس التبريري وبحثه عن شخص ينقل إليه حكمته وكل ما عرفه عن الله والبشر وصولا للقاء رفيق دربه الرومي وحتى وفاته مقتولا. جميعها بروح واحدة وجميعها بذات الاهمية ولكن الابرز والأجمل بالنسبة لي قصة شمس وقواعده الأربعين التي احببتها معظمها إن لم يكن كلها
لا شك أن شخصية شمس اثرت فيّ بدرجة كبيرة جعلتني اتغاطى عن تفاصيل كثيرة لا تمت للإسلام ولا للصوفية بصلة كما ذكرت سابقا، ومنها:
ــ علاقة ايلا وعزيز الذي يشبه بشكل كبير شمس إلا أن الأول اقام علاقة خارج نطاق الزوجية والثاني امتنع تحت اطار شرعي. ــ زواج كيميا وشمس والذي لم يكلل سوا بالحزن والمعاناة ومن ثم وفاة كيميا.. لم اقتنع به او بالأحرى كنت افضل لو امتنع عن الزواج او تزوج فعلا ولا اعرف ان كانت هذه التفاصيل من اضافات إليف. ــ طلب شمس من الرومي شرب الخمر والتي تعد من الأمور التي اثارت جدلا بين الناس ام بالنسبة لي لم اقف عندها كثير فأغلب التفاصيل الدنيوية التي كانت تناقض شمس وتناقض الدين وروحانيات الرواية اعتبرتها اضافات ذاتية، وهي السلبية الوحيدة للكتاب.. ومع ذلك لم تقلل من اهميته ولا اهمية افكاره والحالة النهائية التي يخرج بها كل من يقرأ الرواية.
مواقف شمس مع السكران ووردة الصحراء من التفاصيل التي اقشعر لها بدني، حب الناس بكافة اختلافاتهم السيئ منهم والجيد الغني والفقير عدم الحكم على البشر مهما بدر منهم والاخد بالباطن لا الظاهر ومعرفة الله تكون من معرفة جميع خلقه.
عنصر التشويق بالقصتين كان حاضر بقوة لم اشعر بالملل من الناحية الفنية تعتبر الرواية لوحة متكاملة، طريقة السرد، حوار الشخصيات، الرسائل في البداية بين عزيز وايلا، شرح الاحداث. جميعها كانت جميلة ومتقنة ورغم انها تعتبر من الروايات الطويلة إلا أنني لم اشعر بذلك وانهيتها بفترة قصيرة ولم يكن هناك حشو او تكرار او تفاصيل لا داعي لها.
بالختام ..رغم بعض التفاصيل التي وجدتها غريبة على جو الرواية إلا انها لامست روحي ووجداني وخرجت من عالمها الساحر بحالة روحية جميلة وبقرار ورغبة ع تغيير نظرتي للكثير من الأمور والأصح ربما العودة للفطرة السليمة ..كانت تجربتي الأولى عن الصوفية التي لا اعرف عنها شيئا ولم اجد في الصوفية ما يناقض الإسلام الصحيح ...ولا أعرف إن كان اهتمامهم بالجانب الروحي يكون على حساب العبادات ولن أستطيع الحكم على الصوفية من قراءة واحدة ولابد لي من قراءات اخرى مستقبلا ..قواعد العشق الأربعون تجربة مميزة ونادرة ورحلة لابد من تكرارها كل ما أستطعنا.

هل سار الأدب العربى فى مجراه الطبيعى؟

هذه هى المشاركة الثالثة فى سلسلة المشاركات التى تناقش كتاب فن الأدب.

يرى ‫#‏توفيق_الحكيم‬ أن سبب طغيان الشعر على النثر فى الأدب الجاهلى هو أن النثر يحتاج إلى العمران. وإلى وجود فنون أخرى بجانبه.
والنثر فى نظر كاتبنا ليس المقصود به الخطب ولا الرسائل، لكنه النثر الفنى المتمثل فى القصص والملاحم التى تزخر بالخيال الشعبى. والتى يعانى الأدب الجاهلى من فقر فيها، مقارنة بالهند واليونان وفارس وأمم أخرى.
لكن حتى بعدما جاء العمران لم يلق النثر الفنى اهتماما كبيرا من الأدباء، ولم يتعرض‫#‏توفيق_الحكيم‬ لتفسير هذه الظاهرة، وإنما اكتفى بالإشارة إلى الأدب الشعبى وما حفل به من قصص ونثر فنى كانت صرخة احتجاج على جمود الأدب الرسمى.
واعتقد أن تفسير هذه الظاهرة يكمن فى ذلك الاصطلاح الذى استخدمه كاتبنا (الأدب الرسمى).. فقد كانت نخبة الأدب خاضعة تابعة لنخبة الحكم، ولم تكن هناك الحرية الكافية للتمرد على بعض التصورات الجامدة (أو السياسات)، بل كان من يحاول الخروج على هذه التصورات يرمى بالابتذال والعامية كما حدث مع الجاحظ وكما سيأتى ذكره.
وفيما يتعلق بالفنون اعتقد ان قلة أو انعدام وجود الرسامين والنحاتين كان من أسباب ضعف النثر الفنى. لما تلعبه هذه الفنون من دور فى حرية الخيال والتصور (المستقل عن العاطفة أحيانا) الذى يحتاج إليه النثر الفنى بأضعاف ما يحتاج إليه الشعر.
ما رأيكم؟
يحاول كاتبنا إثبات أن الأدب العربى سار فى مجراه الطبيعى، عن طريق الإشارة إلى القصص الشعبى.
لكن هذه القصص الشعبية فى رأيى كانت امتداداُ لحضارات تلك الشعوب التى سبقت الاسلام. أما الأدب العربى فقد ظل فقيراً فى نثره الفنى، حتى لو وجد كاتبنا أن الاعتراف بهذه الحقيقة صعباً.
ما رأيكم؟

يواصل كاتبنا لوم الأدباء العرب، الذين قصروا فى مجال النثر الفنى، ويتعجب لعدم استلهامهم للقرآن، عندما رأوا أن استلهام الشعب ابتذالاً وعامية.

والكلام هنا بالطبع عن النهضة التى شهدها الأدب العربى فى القرن الماضى.
ولشدما نحتاج إلى هذه الرؤية فى وقتنا الحالى، الذى تغربت فيه أرواحنا وعقولنا. 
فلن تقوم للأدب العربى قائمة إلا لو استلهمنا روحنا الأصيلة، واستطعنا هضم كافة الأفكار العالمية دون أن تطبعنا بطابعها فتمحو شخصيتنا.

Monday, January 4, 2016

نظرة عامة في النقد - من كتاب النقد الأدبي لأحمد أمين

هذه المشاركة تتناول شرح ومناقشة بعض الأفكار في كتاب "النقد الأدبي" للمفكر والأديب الكبير أحمد أمين (1886-1954). ألف أحمد أمين هذا الكتاب ليكون كتابًا مرجعًا، حيث تطرق فيه إلى الكثير من القضايا ذات الصلة بالنقد الأدبي، فتحدث عن أصول النقد ومبادئه، ونظرياته، والأسس التحليلية التي تستند إليها هذه النظريات، والغرض من دراستها، وارتباطها بالفن والعلم، كما تناول المؤلف الجانب التاريخي الخاص بالنقد الأدبي عند العرب والغرب، فاستعرض تاريخ النقد الأدبي الغربي، وتطرق إلى عوامل انحلال المدرسة الكلاسيكية الحديثة، ووضع النقد الأدبي بين المدرسة الكلاسيكية والمدرسة الرومانتيكية، هذا بالإضافة إلى تطرقه لتاريخ النقد الأدبي في الحضارة العربية بدءًا من العصر الجاهلي مرورًا بالعصر الأموي وانتهاءً بالعصر العباسي.

نظرة عامة في النقد

يتحدث الكاتب عن أهمية وصف النقد باعتباره نوعاً من الأدب في حد ذاته. لأن التعامل مع المنتج النقدي على أنه منتج أدبي له قيمة ذاتية، بصرف النظر عن الاستفادة من النقد ذاته، وهي التعبير عن شخصية وفكر الناقد.
دراسة النقد كأدب:  
"ففي المرة الأولى نرجع إلى قطعة من النقد لاهتمامنا بالكتاب، أو بالمؤلف الذي يتناوله هذا النقد، ولكن بعد ذلك سوف نستكشف في هذا النقد شيئاً آخر يستدعي اهتمامنا. فمثلاً كتاب أرنولد "Essays in Criticism" قد نهتم بقراءته أولاً لكي نحصل على تقدير أتم لوردسورت أو لبيرون أو لشيلي أو لكيتس(*): ولكن بصرف النظر عن أهميته الثانوية كوسيلة إلى غاية فإن له قيمته الذاتية كتعبير عن الناقد نفسه، عن شخصيته وفكره وطرقه وأغراضه. وحتى لو وجدنا أقوال أرنولد عن هذا الشاعر أو غيره غير مرضية، وحتى لو لم نجد في هذه الأقوال فائدة ما أو وجدنا فائدة قليلة فيها كوسيلة إلى غاية، فإنها تظل ذات أهمية ولذة باعتبارها أقواله هو. وما يصدق عن أرنولد يصدق بالطبع عن كل النقاد الكبار. ومعنى هذا أن النقد، برغم أنه قد يعتبر مبدئياً كأداة في دراسة الأدب، فإنه يجب ألا يعتبر أداة فقط، فإنه في نفسه صورة من الأدب، وعلى هذا الاعتبار يستحق أن يدرس لقيمته الخاصة"
هوامش: (*)ماثيو أرنولد (1822-1888) شاعر وناقد انجليزي ومؤلف كتاب "Essays in Criticism" (نشر عام 1885) الذي تناول بالنقد أعمال شعراء انجلترا في القرن التاسع عشر. ذكر الكاتب منهم ويليام ووردسورت وجورج بيرون وبيرسي شيلي وجون كيتس. 
يتطرق الكاتب لشرح مؤهلات الناقد وتأثير اللمحات الشخصية على حكمه كناقد. ومدى ملائمة الشخص من حيث تكوينه الفكري ونفسيته وانتباهه لمهنة الناقد. إن من أهم مؤهلات الناقد تجرده من ميوله الثقافية والاجتماعية وذوقه الفردي.  
النواحي الشخصية:  
"لما كانت الشخصية هي الحقيقة المبدئية في كل الأدب فإننا نبدأ بالناقد نفسه. فتكون مهمتنا الرئيسية أن نرى ملائمته لمهنة المفسر والقاضي. ومن الواضح أن كلامه عن كتاب أو مؤلف لا يكون له أي أهمية هنا إلا إذا كان لدينا اعتقاد بأنه يتكلم كأديب له حق خاص في أن يسمع كلامه عن هذا الموضوع. ولذا سندرس أسئلة متعددة عن مؤهلاته، ولن نتكلم هنا إلا عن أهم هذه المؤهلات". 
مؤهلات الناقد:  
"إلى أي حد يقترب في تكوينه الفكري وفي نفسيته مما نسبه للنموذج المثالي للناقد؟ - لما لم يكن في طوق الإنسان أن يبلغ المثل الأعلى وليس له إلا أن يقترب منه فقد - إلى أي حد وفي أي النقط يجب أن نغفر له نقائصه؟ الناقد الحق يجب أن يكون ذهنه منتبهاً ومرناً، حاد النظرة، سريع الاستجابة لكل التأثيرات، قوي الفهم للأساسيات. وفوق ذلك كله يجب أن يكون كما قال ماتيو أرنولد قادراً على أن يرى الشيء كما هو في الحقيقة، وألا يزيغ في ضباب من ميوله الخاصة وأفكاره السابقة. ومعنى ذلك أنه لا يجب أن يكون خالياً تماماً ومتجرداً من كل ميل من أي نوع، ميل الأذواق الفردية، وميل الثقافة، وميل العقيدة والطائفة والحزب والطبقة والأمة. والآن لما كان أعظم النقاد، حتى ناقد مثل لسنج(**)، يخفقون في أن يمتلكوها جميعاً. فإنه يكون من اللازم علينا أن نتبين بدقة وعناية كل علامة على شيء يعوق ذهن الناقد على أن يعمل عملاً حراً نزيهاً في موضوعه، وأن نتتبع هذه العلامات حتى نرجعها إلى أصولها إذا استطعنا، وأن نشرحها ونعللها، وأن نقدر دائرة تأثيرها واحتمالات نتائجها. وموقف الناقد بإزاء المنقود، كموقف أرنولد مثلاً بإزاء ردسورث وشيلي، سوف يقودنا إلى أن نتسائل هل هذا الموقف لا يمكن تفسيره بعلة خاصة في الناقد نفسه. وسوف نجد في كثير من الحالات أن النقد الذي يتميز في حدود معينة بقوة الفهم وصحة الإدراك يشوهه بل ويجعله أحياناً كاذباً عادة ذهنية خالصة أو فكرة سابقة لا أساس لها. وأروع مثال لذلك جونسون، الذي كان ناقداً بارعاً للأدب حين يكون متعاطفاً مع أغراض المؤلف ومبادئه. وكان على العكس تماماً يحن كان يتناول الأدباء الذين لا يعطف عليهم لسبب ما. وهكذا نجد أحسن عمله في نقده ليوب وأديسون اللذين كانا داعيين للمثل الأدبية التي كان يقدرها، ونجد أسوأ عمله في نقده لملتن وجراي. فقد أمسك حكمه على الثاني مخالفته له في الميول الشخصية والأدبية، وأفسد حكمه على الأول مخالفته له في المذهب السياسي". 
هوامش: (**)جوتهولت إفرايم ليسنج (1729 – 1781)، كاتب مسرحي وناقد ألماني. من أقطاب الأدب في القرن الثامن عشر، وزعيم حركة التنوير في ألمانيا. مثلت أشهر مسرحياته على مسرح برلين، وأثرت كتاباته النظرية بصورة كبيرة على تطور الأدب الألماني.

ذخيرة الناقد
يؤكد الكاتب أن المؤهلات أشمل وأعم من موهبة الناقد الطبيعية واستعداده الذهني. إذ يجب أن يكون متقناً لصنعته ومؤهلاً بذخيرة معرفية ملائمة. يذكر الكاتب أهمية النقد المنظم ومواظبة المران على الصنعة بالنسبة للناقد. كذلك ذكر الفارق بين الناقد الذي يؤثر فيه ميل الاحتراف والمهنة وبين القارئ العادي الذي لا يجب أن يحتقر رأيه في العمل الأدبي فهو يتمتع بميزة هي القدرة على الإدراك والتقدير ولرأيه قيمة كبيرة هي أنه رأي خالص مستقل عن أي تأثير أو ميول أدبية. ومن المهم للناقد عملية تهذيب العقل لتتحقق الاستفادة من المعرفة ويصبح قادراً على أداء دوره المفسر والحاكم على العمل الأدبي. يدلل الكاتب على صحة الفكرة بمثال عن الملحمة الشعرية (الفردوس المفقود) للكاتب الانجليزي جورج ميلتون، وقدرة ناقد ما أن يصدر حكماً صحيحاً على هذه الملحمة بدون سابق معرفة عن ملاحم شعرية أخرى كالإلياذة.
"لكن مؤهلات الناقد لا تعتمد على مواهبه الطبيعية فحسب، وهكذا ينشأ سؤال ثان عن ذخيرته وبضاعته التي يتخذها لعمله. هناك من هم على علم زهيد لا دراية لهم بالصنعة، ولكن شعورهم الغريزي بما هو جيد في الأدب قد أعطاهم برغم ذلك قوة غريبة على الإدراك والتقدير والتميز. فمن الواجب ألا نحتقر الحكم النزيه الذي يصدره قارئ عام قدير على كتاب، كما لا نحتقر الحكم النزيه الذي يصدره الهاوي القدير على قطعة أدبية، فإن لهذا الحكم في الحقيقة قيمة كبيرة ولو لمجرد أنه جديد مستقل خالص من التأثير المخادع لأعظم نوع من أنواع الميل وهو ميل الاحتراف والمهنة، وفي نفس الوقت فإن النقد المنظم والعلم المنظم والمران على الصنعة هي أشياء لا غنى عنها. ومن اللازم أن يكون لناقد الأدب كما لناقد الفن تثقيف خاص. ونعني بالتثقيف تحصيل المعرفة وتهذيب العقل معاً، فالناقد يحتاج إلى المعرفة فتعطيه سعة النظرة ولتكون أساساً صالحاً لحكمه، وهو يحتاج إلى تهذيب العقل ليجعل هذه المعرفة قابلة لأن ينتفع بها وإن مقدار صلاحيته كمفسر وحاكم ليتناسب مع معرفته وتهذيبه. فإذا لم توجد المعرفة والتهذيب فإن آراءه مهما تكن لذيذة وموحية فإنها تكون تافهة القيمة. 
وهنا يكون من العبث أن يحاول أحد الحكم على (الفردوس المفقود) دون أن يكون عارفاً للإلياذة والإنيد والمعرفة التامة الدقيقة بأعظم منتجات العالم في القصة التمثيلية والرواية النثرية هي شيء لا بد من لأي واحد يحاول أن يصدر حكماً على رواية أو على دراما. ومن العسير ألا نوافق أرنولد في قوله أن أقل ما ينبغي أن يكون عليه استعداد ناقد هو معرفة أدب كبير بجانب أدبه، وكلما كان مختلفاً عن أدبه كان ذلك أفضل، وليس هناك مبالغة قط في قوله "إن الاستعداد الكامل يجب أن يحتوي على معرفة أحسن الأشياء في كل الآداب الأوروبية القديمة والحديثة وحتى في الآداب الشرقية القديمة، وإن انحصار المعرفة في أي نوع من الأدب سينتج حتماً ضيق الحكم وانحرافه".